شكلت حياة السيد المسيح على الأرض، لغزاً محيراً أمام علماء النفس والسلوك والاجتماع ،نظراً لِما انفردت به حياته من كمال أدبي مطلق، وسمو أخلاقي لم يشهد له التاريخ الانساني مثيلاً، وترفع مدهش عن الحسيات والماديات غير مألوف في عالم البشر منذ خلق آدم وحتى يومنا هذا.
فهو على سبيل المثال لم يحمل سيفاً ، ولا خنجراً ولا حتى عصا ، أو أي سلاح آخر طوال أيام حياته على الأرض، حتى في مجال الدفاع عن النفس، في زمن كان يصرح فيه لعامة الناس بحمل السلاح دفاعاً عن النفس من اللصوص وقطاع الطرق ، ومن الحيوانات المفترسة.
بل ووبخ كل من يحمل السلاح ،حتى في مجال الدفاع عن النفس قائلاً مقولته الخالدة ( مت 26 : 52 ) :
"رد سيفك الى مكانه.لان كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون".
قال هذا في وقت يتعرض فيه لهجوم ليلي من اليهود والجنود الرومان!!
كما أنه لم يكن يحمل المال ، وعندما طالبه المستعمر الروماني بسداد الجزية، لم يكن معه مال ليسددها فأجرى معجزة من معجزاته الباهرة مذكورة في الإنجيل
( متى 17 : 25). وعندما حاول رجال الدين اليهودي اصطياده بكلمة امام السلطات الحاكمة التي تمثل قيصر لإثارة السلطة الرومانية ضده ، استدرجوه بكلام ناعم فقالوا : (يا معلّم نعلم انك صادق وتعلّم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد لانك لا تنظر الى وجوه الناس. فقل لنا ماذا تظن . أيجوز ان تعطى جزية لقيصر ام لا )؟
لكنه رد عليهم بعبارة في غاية الحكمة ، وصارت فيما بعد الاساس العالمي لمبدأ فصل الدين عن الدولة :
(فعلم يسوع خبثهم وقال لماذا تجربونني يا مراؤون؟ أروني معاملة الجزية.فقدموا له دينارا. فقال لهم لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له لقيصر. فقال لهم اعطوا اذا ما لقيصر لقيصر وما للّه لله. فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا) [ الإنجيل ، متى 22 : 19 – 22 ].
نلاحظ هنا انه لم يكن يملك ديناراً واحدا ،لذلك طلب منهم أن يروه عملة الدينار . وعندما تأخر الوقت بمستمعيه ومريديه وهم يصغون إلى تعاليمه حتى حل عليهم المساء دون أن يتناولوا طعاما ، جاعوا ، فأشفق عليهم ولم يشأ ان يصرفهم جوعى ، بل اطعمهم بمعجزة فريدة من نوعها وكانوا شعباً غفيراً نحو خمسة آلاف رجل ، ويضاف إليهم نسائهم واطفالهم( مت 14 : 19 & مر 6 : 41 & لو 9 : 16 & يو 6 :11 ).فهو ليس بحاجة كبقية البشر لابتياع الطعام لهذا العدد الكبير ، إذ يكفيه أن يستخدم سلطانه الباهر لخلق الاحتياجات دون الحاجة لشرائها بالأموال . وقد طالب اتباعه بأن لا يهتموا بما يأكلون ويشربون:
(لا تهتموا لحياتكم بما تاكلون وبما تشربون.ولا لاجسادكم بما تلبسون.. انظروا الى طيور السماء.انها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع الى مخازن.وابوكم السماوي يقوتها. ألستم انتم بالحري افضل منها.ومن منكم اذا اهتم يقدر ان يزيد على قامته ذراعا واحدة.ولماذا تهتمون باللباس . تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو . لا تتعب ولا تغزل.ولكن اقول لكم انه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها.فان كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا أفليس بالحري جدا يلبسكم انتم يا قليلي الايمان؟ فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل او ماذا نشرب او ماذا نلبس.فان هذه كلها تطلبها الامم.لان اباكم السماوي يعلم انكم تحتاجون الى هذه كلها.لكن اطلبوا اولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم.فلا تهتموا للغد.لان الغد يهتم بما لنفسه.يكفي اليوم شره) مت 6 : 25 – 32 ).
كما نهاهم عن محبة المال ، قائلاً لهم : (لا يقدر احد ان يخدم سيدين.لانه اما ان يبغض الواحد ويحب الآخر او يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون ان تخدموا الله والمال)[ الانجيل مت 6 : 24 & لو 16 : 13 ] .كما أنه لم يكن يمتلك بيتاً ، بل ولم يكن له محل اقامة ، وقال عن نفسه انه ليس له مكان يسند فيه رأسه
(مت 8 : 20 ). كما انه كان عفيفاً متبتلاً ، فلم يتزوج ، ولم يخطب، ولم يشتهي امرأة ، ولا أي شهوة أخرى مما يشتهيها البشر ، فلقد عاش حياته متجرداً تماماً عن كل متاع الحياة الأرضية التي مصيرها الزاول ، داعياً الناس إلى الزهد في الماديات والملذات والشهوات الترابية ، وتوجيه قلوبهم الى الروحيات حيث ملكوت السموات الأبدي الذي لا يزول. لذلك جاءت تعاليمه في قمة الروحانية ، وكان ذلك انعكاساً طبيعياً لقداسته ونقاء سيرته ،ونقاوة سريرته ،لأن كل إناء ينضح بما فيه ،
والشجرة الجيدة تصنع ثماراً جيدة، ونحن لا نعرف الناس إلا من أعمالها وسيرتها، وتعاليم المسيح وسيرته وأعماله يضعوه فوق الجميع ،كما أكد على ذلك النبي القديس الشهيد يوحنا المعمدان قبل الفي عام :
(الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع.والذي من الارض هو ارضي ومن الارض يتكلم.الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع.وما رآه وسمعه به يشهد وشهادته ليس احد يقبلها.ومن قبل شهادته فقد ختم ان الله صادق.لان الذي ارسله الله يتكلم بكلام الله.لانه ليس بكيل يعطي الله الروح.الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده. الذي يؤمن بالابن له حياة ابدية.والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله) [ الإنجيل يو 3 : 31 – 34 ].
لذلك فالسيد المسيح هو الوحيد الذي عاش ما علم ، وعلم ما عاش ، فكانت تعاليمه ليس مجرد مثاليات تقال ، بل حياة تُعاش ، ويراها الناس ، فتتعجب وتقول لم نرى كمالاً وطهراً وبراً وتقوى وصلاحاً وقداسة مثل هذا قط . ولهذا السبب عينه فلقد استعصت حياة السيد المسيح المقدسة على الخضوع للتحليل العلمي